مائة من عظماء تركستان الشرقية في التاريخ الحديث – 19
العلامة، المصلح، والمفكر التركستاني، شيخ المشايخ ميرزا أحمد مخدوم، المعروف بلقبه “أفندي مخدوم”، وُلد يوم الأحد، السادس عشر من شهر رجب عام 1280هـ (27 ديسمبر 1863م) في مدينة كاشغر، لعائلة عريقة في العلم والشأن. كان والده أحد العلماء المشهورين في كاشغر، وينتمي نسبه إلى أسرة ميرزا التي برزت في عهد السلطنة السعدية. أما والدته، حبيبة خانم، فكانت ابنة الطبيب الشهير إبراهيم، الذي اشتهر بطب العيون في كاشغر.
وُلد ميرزا أحمد مخدوم في فترة مليئة بالاضطرابات في كاشغر. ففي يونيو 1857، غزا ولي خان توري كاشغر واستولى عليها، وفي العام نفسه، ثار عمال مناجم النحاس في كاشغر احتجاجًا على الضرائب والجباية. كما شهد عام 1858 انتفاضة مزارعي كاشغر ضد فرض الضرائب على الأراضي القاحلة.
في عام 1864، وبتأثير الثورة التي اندلعت في كوجا، اشتعلت الثورة في كاشغر أيضًا، وأدت إلى الإطاحة بالنظام القائم وتأسيس نظام جديد بقيادة صديق بك. ولكن في يناير 1865، أطاح يعقوب بك بنظام صديق بك واستولى على كاشغر، حيث أسس الدولة الكاشغرية. في عام 1873، أعلن يعقوب بك بيعته للخليفة العثماني، الذي قبل البيعة وأعلنه أميرًا لتركستان الشرقية.
رغم هذه الأحداث المتلاحقة التي تسببت في اضطرابات كبيرة وتأثيرات سلبية على اقتصاد أهل كاشغر، بما في ذلك إفقار الشعب وتعطيل عملية الإنتاج، إلا أن أسرة ميرزا أفندي لم تتأثر بشكل خطير على الصعيد المالي. وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة، أولى ميرزا أفندي اهتمامًا كبيرًا بتعليم ابنه.
تلقى الصبي تعليمه الديني الابتدائي على يد والدته الشيخة حبيبة خانم. ثم التحق بمدرسة خانليغ، حيث بدأ تعليمه الرسمي على يد والده، العلامة ميرزا أفندي.
في عامي 1872 و1873، قام يعقوب بك بإدخال أصدقائه المقربين إلى مختلف المؤسسات الحكومية والإدارات الدينية، مما أثار استياءً لدى بعض الأسر البارزة، ومنها أسرة ميرزا أفندي. ونتيجة لذلك، غادر ميرزا أفندي كاشغر بصحبة ابنه، الذي كان يبلغ من العمر 11 عامًا، في رحلة إلى المملكة العربية السعودية.
بعد أدائهما لمناسك الحج في تلك السنة، استقر ميرزا أفندي في مكة المكرمة، حيث بدأ التدريس في مدرسة الأمير بفضل معارفه وعلاقاته هناك. كما رتب لابنه أفندي مخدوم الالتحاق بالدراسة في المدرسة نفسها. أظهر أفندي تفوقًا ملحوظًا في دراسته، وتخرج من المرحلة الثانوية عام 1876 بنتائج متميزة.
لكن القدر كان له كلمة أخرى، حيث توفي ميرزا أفندي في مكة المكرمة في العام نفسه، تاركًا وراءه إرثًا علميًا ودينيًا كبيرًا، وأثرًا بالغًا في حياة ابنه الذي أصبح لاحقًا من أعلام الفكر والإصلاح في تركستان الشرقية.
بعد وفاة والده، أكمل أفندي مخدوم تعليمه في مكة المكرمة بمساعدة أصدقاء والده المخلصين، حيث التحق بثلاث مدارس أخرى وتخرج منها بلقب “العلامة” تقديرًا لعلمه الواسع ومعرفته العميقة.
بين عامي 1907 و1909، قام أفندي مخدوم بجولة في آسيا الوسطى والدول الأوروبية، حيث التقى بالعديد من العلماء المسلمين وأقام صداقات قوية معهم. خلال زيارته لأوروبا، أثار إعجاب العلماء المسلمين هناك باتساع معرفته وثقافته. أظهروا له احترامًا كبيرًا وأطلقوا عليه لقب “أفندي”، الذي أصبح فيما بعد اسمًا مستعارًا له ولقبًا يعبر عن مكانته العلمية.
على الرغم من أن العلماء الذين التقاهم في أوروبا توسّلوا إليه ليعمل معهم ووعدوه بمناصب رفيعة، إلا أنه رفض تلك العروض وأصر على العودة إلى مكة المكرمة، حيث بدأ التدريس في المدارس الدينية هناك، مواصلًا رسالته في نشر العلم.
وفي عامي 1911 و1912، قام بهاء الدين بك، الذي جاء من كاشغر للحج، بإحضار رسائل، وهدايا، وتحيات من أهل كاشغر وأقارب أفندي مخدوم. كانت هذه المبادرة محاولة لإعادة بناء العلاقات المقطوعة بينه وبين أقاربه، وسد الفجوة التي طال أمدها.
لكنه رفض عرض بهاء الدين بك قائلاً: “لن أترك فرصة اكتساب المعرفة في حياتي”. ومع ذلك، وبسبب إصرار بهاء الدين بك الذي اعتبر رفضه نوعًا من عدم احترام الأقارب وأهل كاشغر، وافق أفندي مخدوم أخيرًا على العودة إلى وطنه، وغادر معه من مكة المكرمة.
عند وصوله إلى كاشغر، كان في استقباله العلامة بهاء الدين، المعروف بلقب “سلطان العلماء”، إلى جانب كبار علماء كاشغر وصغارهم. استُقبل بحفاوة واحترام كبيرين تقديرًا لمكانته العلمية وسمعته الطيبة.
بعد استقراره في كاشغر، عُيّن أفندي مخدوم مدرسًا في مدرسة خانليغ، كما عُيّن خطيبًا للجامع الكبير في كاشغر (الذي هُدم لاحقًا خلال الثورة الثقافية).
وعندما توفي العلامة بهاء الدين مخدوم في عام 1913م، تولى أفندي مخدوم منصب شيخ الإسلام، وأصبح يجلس في صدر المدرسين في مدرسة خانليغ. بالإضافة إلى ذلك، عُيّن خطيبًا لجامع عيدگاه.
بعد توليه منصب التدريس في مدرسة خانليغ، بدأ أفندي مخدوم في تحسين طرق التدريس بشكل جذري. اعتمد في ذلك على الخبرات المتقدمة في الدول العربية والإسلامية، حيث قام بتطوير المناهج الدراسية بشكل يتماشى مع أحدث الأساليب التعليمية. أضاف العديد من الإصلاحات التي أدت إلى تحديث النظام التعليمي في المدرسة.
إحدى أبرز إصلاحاته كانت إعادة إدخال المواد الدراسية التي كانت قد أُلغيت في فترات لاحقة، مثل علم الفلك والكيمياء والطب، وهي مواد كانت قد أسست في عهد سلالة القاراخانية. بذل جهودًا كبيرة لإعادة هذه العلوم إلى حلقات التدريس، وقام بتدريس نفسه علم الفلك والكيمياء ليكون قادرًا على تعليمها للطلاب. بالإضافة إلى ذلك، أعد كتبًا دراسية في مواضيع “النحو” و”علم التجويد”، لتطوير قدرة الطلاب على فهم اللغة العربية والإلمام بالشؤون الدينية.
في أوقات فراغه، قام بتأليف كتاب بعنوان “المجتمع والآداب” بأسلوب شعري، تناول فيه الآداب التي يجب أن تُصحح في المجتمع. كان الكتاب يتضمن مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن يسير عليها المجتمع.
لكن مع الثورة الثقافية الصينية في سبتمبر 1966، اقتحم الشيوعيون منزل نجله ميرزا معصوم خان في كاشغر، ونهبوا الكتب وأحرقوها، بما في ذلك كتاب “المجتمع والآداب” والعديد من المحاضرات التي احتفظ بها في المنزل.
لم يقتصر دور أفندي مخدوم على تطوير التربية والتعليم في كاشغر فحسب، بل ساهم أيضًا بشكل كبير في إدارة الشؤون الاجتماعية وفقًا للشريعة الإسلامية وتطبيقاتها. كان يتبع نهجًا قاطعًا في المحافظة على استقلالية النظام القانوني، حيث لم يُسمح للولاة بالتدخل في الأمور القانونية المحلية، ولم يخف من تهديداتهم، فكان يرفض رفضًا قاطعًا مطالبهم غير المبررة.
وفي عامي 1933 و1934، عندما وقعت مذبحتان في كاشغر على يد ما جونغ ينغ، القائد لطائفة التونغان، استخدم أفندي مخدوم سمعته الرفيعة وسلطته ونفوذه بشكل فعال. جمع الأموال والبضائع من أثرياء كاشغر، وقام بتقديمها لهؤلاء اللصوص بهدف وقف المجزرة وإنقاذ أرواح الناس.
توفي أفندي مخدوم في الساعة السابعة من صباح يوم 28 أغسطس 1943 عن عمر يناهز الثمانين عامًا في كاشغر.
بقلم: عبد الرحيم ثابت، ترجمة مركز الدراسات الأويغورية
مركز حقوق الطبع والنشر لدراسة الأويغور - جميع الحقوق محفوظة