مائة من عظماء تركستان الشرقية في التاريخ الحديث – 10
ولد عبد العزيز جنكيز خان دامُلَّا عام 1906 في مقاطعة بوجور في عائلة ذي علم ومعرفة. كان والده عاشور دامُلَّا عالما دينيًا بارعًا، وقاضيا في المحكمة الشرعية لمقاطعة بوجور، تلقى تعليمه الابتدائي من والده، ثم ذهب إلى مقاطعة كوجا، ودرس في مدارسه.
وقد استأذن من والده في الذهاب إلى مصر للدراسة في الأزهر، وبعد موافقته، غادر وطنه وجاء إلى كاشغر، والتحق بمدرسة خانليغ – الملكية -. في عام 1925 جاء إلى الهند ودرس في مدرسة دار العلوم ديوبند من أشهر مدراس الهند لمدة عام ونصف. أثناء دراسته في الهند كتب قصيدة باللغة الفارسية بعنوان “تيغ تركاني”، دحض فيها الطائفة القاديانية التي نشأت في الهند. نُشر هذا الكتاب في الهند عام 1935 على نطاق واسع، وتداول بين العلماء الهنود والباكستانيين والأفغان. هناك شائعات بأنه لم يذهب إلى الهند من كاشغر، بل ذهب من نانجينغ، بعد دراسته السياسة في جامعة نانجينغ.
في عام 1926، غادر الهند إلى القاهرة، ووصل إلى مصر بعد رحلة بحرية استغرقت 21 يومًا. اعتبارا لعلمه بين زملائه والمسافرين من الهند والبنغال وجنوب شرق آسيا على متن الباخرة، كان إماما لهم أثناء هذه الرحلة. على درايته بالجغرافيا، صلى إلى اتجاه الغرب، حتى وصل إلى منتصف البحر الأحمر. فعندما اقتربت الباخرة من بحر العرب، توجَّه إلى الشمال، وحوَّل ببطء نحو الشمال. فأما الناس على متن الباخرة لم يكن راضيا بهذه التغييرات، ولذلك ألقى اللوم والعتاب عليه. وقد أوضح للجماعة أن القبلة في مكة وليس في الغرب، لذلك على المسلمين في الغرب أن يتجهوا نحو الشرق، ومن في الجنوب يتجه نحو الشمال، ومن في الشمال يتجه إلى الجنوب. لم يستمع الناس على توضيحه، بل استهزؤوا به، ورفضوا الصلاة معه. عندما وصلت الباخرة إلى جدة، صلَّى باتجاه الشرق. لما رأى الناس هذه الأفعال التي صدرت عنه، ابتعدوا عنه ظناً منهم أنه أصيب بالجنون.
فلمَّا مرَّت الباخرة بجدة، صلى في اتجاه الجنوب الشرقي. عندما رأى الشعب هذه التغييرات الكثيرة، كثر الجدل بينهم في أمره، حيث وصلت الباخرة إلى ميناء السويس في وقت الظهر، دخل هؤلاء الناس إلى مسجد ميناء السويس للصلاة. بعد دخولهم بالمسجد خجلوا؛ لأن القبلة كانت بالجنوب الشرقي. بعد ذلك اعتذروا له عن أخطائهم طوال الطريق وأكرموه واحترموه. وبدأوا يفعلون ما يقول. (في 7 مارس 1946 روى جنكيز خان دامُلَّا هذه القصة بشفتيه لطلابه في مدرسة خانليغ في كاشغر).
بعد وصوله إلى القاهرة عام 1927، التحق بجامعة الأزهر للدراسة، وفي عام 1934 تخرج منها في مجال الفقه والتاريخ الإسلامي. ثم تخرج من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) وأصبح مدرسًا فيها. وفي عام 1939 ذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج.
ألَّف جنكيز خان دامُلَّا مؤلفات عديدة، نظما وشعرا، منها: “تركستان قلب آسيا” و “صوت الوجدان”. خلال إقامته في مصر، أصبح صديقًا مقربًا للصاوي علي محمد شعلان، أحد الشعراء المصريين المشهورين. يخبر الصاوي شعلان أنه رأى مخطوطة كتاب جنكيز خان دامُلَّا “تركستان الخالدة”، وأن الكتاب عمل مهم للغاية في تاريخ تركستان الشرقية.
وفقًا للسير الذاتية التي كتبها يالقون روزي وشريف خوشتار في صحيفة الأويغور عن جنكيزخان دامُلَّا، تقدم جنكيز خان دامُلَّا عندما كان يدرس في جامعة الأزهر إلى الاشتراك في المناظرة الدولية لعلماء الدين، فشارك بإذن خاص من الملك فاروق، وفاز في النقاش، وأثنى عليه الملك فاروق قائلاً: “أنت جنكيز خان غزت عالم العلم”. ومنذ ذلك الحين، لقِّب ب”جنكيز خان”. ولكن ليس لدينا أي مصادر مكتوبة، تثبته. وأخبر: عبد الأحد زميله في مصر، – والذي استقر لاحقًا في المملكة العربية السعودية – الباحث (عبد الجليل توران) في إسطنبول في صيف عام 1988، أن جنكيز خان دامُلَّا لقَّب نفسه بهذا الاسم المستعار. وأخبر أيضا: أن جنكيز خان دامُلَّا أجرى مناقشات علمية في الصحائف مع التونجانيين الذين درسوا معه خلال سنواته في مصر ورد عليهم. فاشتهر بمقالاته وقصائده أثناء دراسته في مصر.
خلال أيامه في مصر، التقى جنكيز خان دامُلَّا الشيخ الطنطاوي صاحب التفسير في أحد شوارع القاهرة. أعجبه هذا الشاب الذي جاء من وراء جبال الهيمالايا ببراعته العلمية وفضائله الأخلاقية، كما تحدث عنه في خلال تفسيره.
على الرغم من أنه كان عالمًا تلقى تعليمه في المدرسة الدينية، إلا أنه ساوى بين التقوى والوطنية وأوضح ذلك في مقدمة كتابه “تركستان قلب آسيا” قائلا: على المرء في هذه الدنيا واجبات ترتبط بذمته، وتحقق بها سعادة دنياه وآخرته، وأهمها في حياة الشخص واجبان، واجبه الديني وواجبه الوطني.
ولتحقيق هاتين الواجبتين، لقد قام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الأويغورية من أجل الوفاء بواجباته الدينية، وألَّف كتاب “قلب تركستان آسيا”، للوفاء بالتزاماته تجاه الوطن الأم. لا يزال هذا الكتاب مصدرا أساسيا للباحثين الذين يرغبون في كتابة تاريخ تركستان الشرقية.
وقد تحدث عن أسباب تأليف هذا الكتاب، (تركستان قلب آسيا)، وقال: “ولقد كنت منذ نشأتي أشعر بإيمان عميق يدفعني أداء هذين الواجبين، فرأيت أن خدمة بلادي تعد وفاء بهما، وقياسا بحقهما في وقت واحد. وذكرت إذا وفقت إلى إخراج كتاب باللغة العربية في تاريخ تركستان، فقد خدمت الدين والوطن، وأرضيت الله والأمة. إن تاريخ الترك لن يعرف منفصلا عن تاريخ الإسلام كما أن الإسلام لا يمكن استيفاء عصوره وأجياله بحثا واستقصاء بغير تاريخ الأتراك، فكلا التاريخين مرتبط بالآخر، ومتمم له فهما كالروح والجسم لا ينفصلان، وكالنور والحرارة لا يفترقان.
قمت بهذا الواجب فعلا، فصنفت كتابا يشتمل على مجلدين كبيرين عن بلادي منذ بزوغ فجر تاريخها إلى اليوم، وأطلقت عليه اسم تركستان الخالدة. وكنت أحاول أن أخرجه للناس في صورته الكاملة فحالت أزمة الورق والظروف الحاضرة دون الوفاء بذلك، فأثرت التريث والانتظار.حتى شرفتني الجمعية الخيرية التركستانية والجالية التركستانية بمصر بتكليفي بإصدار رسالة موجزة عن تاريخ تركستان، فتلقيت هذه الرغبة النبيلة بما هو جديرة به من تلبية واستجابة، ثم توالت على الرسائل من تركستان تتعجل عودتي إلى الوطن، وأنا بدوري لست أقل شوقا إلى الوطن من الوطن حين يدعوني إلى الاستنارة بضيائه والحياة السعيدة بين أرضه وسمائه…… فمن أراد بعد ذلك استيفاء المعلومات الصافية عن تاريخ تركستان، ففي تركستان الخالدة غناء وشفاء.”
صدر هذا الكتاب لأول مرة في القاهرة عام 1945، وعام 1986 في باكستان للمرة الثانية مع مجموعته القصائدية بعنوان “صوت الضمير” على نفقة العلامة عبد الستار مولوي الذي عاش في السعودية بعد احتلال الصين لتركستان الشرقية. كما نُشرت قصائده باللغة العربية عن الوطن التي كتبها في فترة دراسته وتدريسه في مصر تحت اسم “صوت الوجدان” في القاهرة عام 1944، ومرة ثانية في باكستان عام 1984. وكذلك طبع كتابه “أويغور صرفي” (علم الصرف للغة الأويغورية)، في القاهرة عام 1939.
عاد جنكيزخان دامُلَّا إلى أورومجي عام 1945 بتشجيع من أقاربه عبد الحميد مخدوم وآي مخدوم. في طريق عودته من مصر، زار المملكة العربية السعودية، وأدى فريضة الحج، والتقى بمحمود محيطي أثناء الحج، وذهب معه إلى اليابان، وجاء من اليابان إلى بكين ودرس في جامعة نانجينغ لفترة. عندما توفي محمود محيطي صلَّى صلاة الجنازة له ودفنه بيديه.
وعلى الرغم من وجود تقارير تفيد بأنه عاد إلى أورومجي في يناير 1947 بعد أن عمل في السفارة المصرية في بكين، إلا أن هذا لا يتوافق مع تعيينه للتدريس في مدرسة خانليغ في كاشغر في مارس 1946 كما مر.
بعد عودته إلى أورومجي أصبح رئيسًا لجمعية التعليم الثقافي، ووقف إلى جانب محمد أمين بُغْرا وعيسى يوسف آليب تكين، وناضل من أجل استقلال تركستان الشرقية وحرية شعب الأويغور، وكتب مقالات في جريدة “أَرِكْ”. وألقى محاضرات في دار المعلمين بأورومجي في التاريخ الإسلامي.
في ربيع عام 1946، تشكَّل اللجنة لمراجعة أعمال جمعية التعليم الثقافي في جميع أنحاء تركستان الشرقية، وتجول في كل المقاطعات، مثل خُتَن، وياركند، وكاشغر، وآقسو، وكوجا، وقد استغرقت الزيارة 63 يومًا. في سبتمبر 1949، سافر مع محمد أمين بُغْرا وعيسى يوسف آليب تكين وآخرين إلى الخارج، وعلى الرغم من عبور بعضهم الحدود، إلا أنه لم يتمكن من المرور وعاد من الحدود. هناك أيضًا بعض الآراء يفيد أنه رجح البقاء في البلاد لاستمرار النضال.
اعتقل في عام 1950 وأعدم في أورومجي على يد النظام الشيوعي الصيني في 25 فبراير 1952، مع مجموعة من المثقفين الزملاء نظرا لكونه من الأويغور الوطنيين حارب ضد الاحتلال الشيوعي الصيني الأحمر الجالب كارثة كبيرة لشعب تركستان الشرقية.
كان جنكيزخان داملا اهتم بشكل خاص برفع المستوى الديني والعلمي لشباب الأويغور. وبهذا الصدد ألقى المحاضرات في الإسلام وتاريخه في دار العلوم في أورومجي، وأدى الصلاة معهم، وقدم دروسًا دينية وأخلاقية.
وكان في طليعة العلماء الذين نشأوا في تركستان الشرقية بمقاومة البدع والمذاهب الباطلة، وألف قصيدة بعنوان “تيغ تركاني” باللغة الفارسية حول هذا ودحض فيه مزاعم القاديانية. وبرغم كونه أعجميا كان يجيد اللغة العربية بمستوى بعض الأدباء والشعراء العربي، ولكنه اهتم اهتمامًا خاصًا بلغته الأم. وقد ألف ثلاثة كتب في هذا الموضوع، نُشر منها فقط “أويغور صرفي” ولم تتح الفرصة لنشر غيره لعدم الإمكانية. ويقول في مقدمة الكتاب: إذا أراد أي أمة لتبقى في العالم، فلا بد أن يكون لها ثقافة وطنية ولغة أم. وكذلك إذا أردنا أن نبقى إلى الأبد، فلا بد لنا أن نعرف لغتنا دراية، وندافعها من تسلل اللغات الأجنبية.
فهو لم يتركز على اللغة فقط، بل ركز على تاريخ الأسلاف، وأكَّد الضرورة إلى دراستها بشكل عميق. وبناء على هذا كتب كتابا حول هذا الموضوع كما مرَّ، حيث يجعل تاريخ الأويغور معروفًا لدى الشعوب العربية. فهذا الكتاب مازال مصدرًا مباشرًا للشعوب العربية، بل للشعب الأويغوري أيضا.
في جانب اهتمامه بالدين والتاريخ واللغة، اعتنى بالأدب بشكل خاص، لأن الناس يمكن أن يطوروا شعورهم الوطنية والقومية، والضميرية من خلال الأدب. فكتب العديد من القصائد والرباعيات باللغتين الأويغورية والعربية. ولكن لم يصل منها إلى يومنا الحاضر إلا “صوت الوجدان”، واختفى الباقي دون أن يترك أثرا. فمن مؤلفاته: “أركين تركستان” (التركستان الحرة) و”أولوغ تركستان” (تركستان الكبيرة) حول جغرافية تركستان الشرقية، ومجموعة من القصائد الأويغورية تحت عنوان “گوزل تركستان”، (تركستان الجميلة) و”التجويد باللغة التركية”، و”أويغور صرفي” في مورفولوجيا اللغة الأويغورية، و”أويغور نحوي” في قواعد النحو وتركيب اللغة الأويغورية، و”الإسلام في تركستان” و” تاريخ الأدب التركي “، و” تركستان الخالدة “، و” تركستان قلب آسيا”، و”صوت الوجدان”. وألف قصيدة باللغة الفارسية بعنوان “تيغ تركاني” كما ذكر، وظهر فيه غضبه وكراهيته للطوائف الباطلة التي تتظاهر بمظهر الإسلام.
للأسف من بين 12 كتابًا ألفها جنكيز خان دامُلَّا بدمه وعرقه، نشرت أربعة منها فقط. وهي ” تركستان قلب آسيا” و”صوت الوجدان” و “أويغور صرفي” و “تيغ توركاني”، ولم ير غيرها نور هذا العالم.
بقلم: عبد الجليل توران
مركز حقوق الطبع والنشر لدراسة الأويغور - جميع الحقوق محفوظة