بقلم دارين خالد*
في أقصى غرب الصين، يتعرض الأويغور لواحدة من أخطر أزمات حقوق الإنسان في عصرنا. وفي هذا السياق، نظمت الحكومة الصينية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، حملة ممنهجة لقمع مسلمي الأويغور، فانتزعت منهم ليس فقط حقوقهم بل أيضا جوهر الروابط الثقافية والأسرية. وفي صميم هذا التطهير العرقي والإبادة الجماعية يكمن جانب مروع بشكل خاص، ألا وهو الفصل القسري لأطفال الأويغور عن أسرهم.
هذه الممارسة ليست مجرد نتاج ثانوي للسياسة، بل هي استراتيجية مدروسة و متعمدة لتقويض هوية الأويغور. ومنذ عام 2014، تصاعدت الحالة بشكل مقلق. شهدت الإجراءات القمعية التي اتخذتها الحكومة الصينية زيادة هائلة، حيث أشارت تقارير إلى أن مليون أو أكثر من الأويغور قد احتجزوا تعسفا في مراكز “التحويل من خلال التعليم”، وتعرضوا للتعذيب، والتلقين السياسي، وحملة منهجية من الاستيعاب القسري .
في هذا المشهد من الإرهاب، يتم انتزاع أطفال الأويغور من أحضان آبائهم ووضعهم في مؤسسات تديرها الدولة، حيث يتم طمس لغتهم ومعتقداتهم وتراثهم الثقافي بشكل منهجي. تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على هذا الانتهاك الفظيع لحقوق الإنسان وإلى تضخيم الأصوات التي تصرخ ضد هذا الظلم الذي لا يمكن وصفه.
السياق التاريخي والسياسي
إن محنة شعب الأويغور في تركستان الشرقية (التي يشار إليها باسم شينجيانغ من قبل السلطات الصينية، وهو مصطلح يرفضه الأويغور) ليست انفجارا مفاجئا بل هي نتيجة تاريخ طويل من القمع والتهميش. تاريخيا، واجه الأويغور، وغالبيتهم من الأتراك المسلمين، تمييزا منهجيا في الصين. وقد قوبل كفاحهم من أجل الاستقلال الثقافي والديني بقمع لا هوادة فيه من جانب الحكومة الصينية.
وفي عام 2014، اتخذ هذا التوتر الشديد منحى حادا. وتحت ستار مكافحة “التطرف الديني” وما يسمى “الحرب الشعبية ضد الإرهاب”، بدأت الصين حملة قمع مكثفة في تركستان الشرقية. وقد تعرضت المنطقة، الغنية بالتنوع الثقافي، لحالة مراقبة متزايدة الانتشار والتدخل. كانت هذه الحملة، التي استهدفت الإرهاب ظاهريا، في الواقع محاولة مكشوفة للسيطرة على سكان الأويغور واستيعابهم.
ازداد الوضع تدهورا في العام 2017، مع تحول السياسات الصارمة للحكومة الصينية إلى اعتداء صريح على هوية الأويغور. وهناك ما يقدر بنحو 1.8 مليون من الأويغور والأقليات المسلمة الأخرى مسجونين في شبكة مترامية الأطراف من معسكرات الاحتجاز، التي توصف على نحو ملطف بأنها مراكز “التحويل من خلال التعليم” أو مرافق “التدريب المهني” . وهنا تعرض المعتقلون للتعذيب المنهجي، والتلقين السياسي، والاندماج الثقافي القسري. لم تكن إجراءات الدولة الصينية مجرد حملة على المعارضة المتصورة، بل محاولة لمحو ثقافة بأكملها، لإعادة كتابة المشهد العرقي والثقافي لتركستان الشرقية.
فصل الأطفال عن أهلهم
وفي بؤرة القمع الوحشي الذي تمارسه الصين في تركستان الشرقية، يكمن تكتيك ماكر بشكل خاص، ألا وهو الفصل المنهجي لأطفال الأويغور عن أسرهم. هذه الممارسة البغيضة هي حجر الزاوية لحملة الصين لمحو الهوية الثقافية للأويغور وتطبيق أيديولوجية صينية متجانسة.
في هذه الاستراتيجية المحسوبة للإبادة الثقافية، حولت الدولة الصينية التعليم إلى سلاح. تبدأ عملية الاستيعاب التي تقوم بها الحكومة الصينية باحتجاز الآباء بناء على ادعاءات تعسفية مذكورة أعلاه، ووضعهم في معسكرات الاعتقال وترك الأطفال دون حماية أو ضرر. ويصنف الأطفال الذين يحتجز آباؤهم، أو يقبعون في السجن، أو يخضعون لإعادة التعليم أو “التدريب”، إلى فئة من فئات الاحتياجات الخاصة، الأمر الذي يجعلهم مؤهلين لتلقي رعاية الدولة، وهو ما يعني عادة وضعهم في دور الأيتام هذه أو المدارس الداخلية. سارعت الحكومة الصينية بإنشاء مدارس داخلية تديرها الدولة في جميع أنحاء تركستان الشرقية، حيث يتم تسجيل أطفال الأويغور قسرا سواء تم أخذ آبائهم أو لم يتم. وهنا يخوضون عملية لا هوادة فيها من التوسيع. ويكاد يكون التعليم مقصورا على اللغة الصينية، حيث يتم حظر اللغة الأويغورية والممارسات الثقافية بشدة وبشكل صريح . والهدف من ذلك واضح ومخيف: تحويل هذه العقول الشابة إلى أشخاص مخلصين للدولة، خالية من جذورها العرقية والثقافية.
وفي هذه المدارس، يعزل الأطفال عن أسرهم ومجتمعاتهم المحلية، مما يجردهم من الروابط العائلية والتراث الثقافي. وقد أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم البالغ إزاء ترحيل الأطفال على نطاق واسع من أسرهم، بمن فيهم أولئك الذين تم نفي والديهم أو إحتجازهم. إن هذا الانفصال وما أعقبه من إستيعاب قسري لممارسات هان الثقافية ليس مجرد انتهاك للحياة الأسرية، بل هو اعتداء مباشر على هوية الأويغور .
وما يزيد من تفاقم هذه المأساة هو إغلاق المدارس المحلية التي توفر التعليم بلغة الأويغور ولغات الأقليات الأخرى، كما ذكر العلماء ومنظمات حقوق الإنسان. إن هذا العمل المتعمد المتمثل في القضاء على المؤسسات التعليمية التي تغذي هوية الأويغور إنما يسلط الضوء على الطبيعة الخبيثة لسياسات بكين في تركستان الشرقية.
ولا ينبغي للعالم أن يغض الطرف عن هذه الفظائع. إن الفصل القسري لأطفال الأويغور عن عائلاتهم تحت ستار التعليم هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وتذكير قاتم بمدى لجوء الأنظمة الاستبدادية إلى قمع الأقليات العرقية واستيعابها. إنها إستراتيجية مروعة تهدف إلى محو ثقافة بأكملها، وهو انتهاك لحق الإنسان الأساسي في الحفاظ على التراث الثقافي والروابط الأسرية. هذه ليست مجرد قضية إقليمية؛ إنها أزمة إنسانية تستدعي إدانة عالمية واتخاذ إجراءات عاجلة.
المنظور القانوني ومنظور حقوق الإنسان
إن الفصل القسري لأطفال الأويغور عن أسرهم في تركستان الشرقية ليس مأساة إنسانية عميقة فحسب، بل هو أيضا انتهاك صارخ للقانون الدولي وحقوق الإنسان. وتشكل هذه الحملة المنهجية من التطهير العرقي من قبل الحكومة الصينية تحديا صارخا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، والتي صدقت عليها الصين في عام 1992. تنص الاتفاقية صراحة على عدم فصل الأطفال عن آبائهم رغما عنهم، مع التأكيد على أهمية مراعاة مصالح الطفل الفضلى في جميع الإجراءات المتعلقة بالأطفال .
وعلاوة على ذلك، تشكل هذه الإجراءات انتهاكا صارخا للحق في التعليم دون تمييز، كما أشار خبراء الأمم المتحدة. إن التحول إلى التعليم الذي تهيمن عليه اللغة الصينية في المدارس الداخلية، إلى جانب إغلاق المدارس المحلية التي تدرس في الأويغور، يقوض بشكل صارخ الحق في التعليم باللغة الأم، وهو جانب رئيسي من الحقوق الثقافية .
وعلاوة على ذلك، فإن السياسات التي تنفذها الدولة الصينية في تركستان الشرقية تتعارض مع مبادئ حرية التعبير والخصوصية في الحياة الأسرية. فبوضع الأطفال قسرا في مؤسسات تديرها الدولة وتقييد التواصل مع أسرهم، تنتهك الحكومة الصينية حقوق الإنسان الأساسية التي تسمح للأطفال بالحفاظ على علاقات شخصية منتظمة والاتصال المباشر مع آبائهم .
وقد أدان المجتمع الدولي، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان والخبراء القانونيون، مرارا هذه الأعمال. إن حرمان أطفال الأويغور من حقوقهم في هويتهم الثقافية، وحياتهم الأسرية، وحرية التعبير، هو مؤشر واضح على تجاهل الحكومة الصينية للمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتزاماتها بموجب المعاهدات العالمية لحقوق الإنسان. وتتطلب شدة هذه الانتهاكات وحجمها إستجابة عاجلة وقوية من المجتمع الدولي لمحاسبة الحكومة الصينية وضمان حماية هذه الحقوق الأساسية لسكان الأويغور .
الاستجابة الدولية
إن الاحتجاج الدولي ضد انتهاكات الحكومة الصينية الفظيعة لحقوق الإنسان في تركستان الشرقية آخذ في التزايد، ومع ذلك لا يزال غير كاف في مواجهة شدة الأزمة. أدانت الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والعديد من الحكومات الفصل المنهجي لأطفال الأويغور عن أسرهم. أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم البالغ إزاء سياسات الاستيعاب في المدارس الداخلية في الصين وإغلاق المدارس المحلية التي توفر التعليم في الأويغور .
وقد انتقد نشطاء حقوق الإنسان بشدة تصرفات الصين، وحثوا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على الاعتراف بهذه الأعمال باعتبارها إبادة جماعية، ورفض محاولة الصين لإعادة انتخابها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة . علاوة على ذلك، حددت حكومة الولايات المتحدة الوضع في تركستان الشرقية على أنه إستمرار للإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، مما أدى إلى إدراج الشركات المشاركة في استغلال العمالة القسرية للأويغور على القائمة السوداء.
ورغم أهمية هذه الاستجابة العالمية، فإنها لا تزال تتطلب المزيد من العمل الجوهري المتضافر. ويجب على المجتمع الدولي ألا يعترف فقط بانتهاكات حقوق الإنسان هذه، بل يجب عليه أيضا أن يرد عليها بفعالية، من خلال اتخاذ تدابير ملموسة لمساءلة الحكومة الصينية، وتوفير الإغاثة والعدالة للشعب الأويغوري.
ومن الضروري أن يدين المجتمع الدولي هذه الأعمال إدانة قاطعة وأن يتخذ خطوات حاسمة لمحاسبة الحكومة الصينية. ويجب على الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمعات المدنية في جميع أنحاء العالم أن تتوحد جهودها لإنهاء هذا الانتهاك المروع لحقوق الإنسان. ويجب علينا جميعا أن ندعو إلى حقوق هؤلاء الأطفال في لم شملهم مع أسرهم، والحفاظ على هويتهم الثقافية، والعيش دون خوف أو اضطهاد.
إن محنة عائلات الأويغور في تركستان الشرقية تشكل اختبارا لعزمنا الأخلاقي الجماعي – ولا يمكننا تحمل الفشل.
*دارين خالد باحثة في مركز الدراسات الأويغورية
مركز حقوق الطبع والنشر لدراسة الأويغور - جميع الحقوق محفوظة